مدحت بركات لتركيا وإثيوبيا: صبرنا بدأ ينفد واتقوا شر الحليم
من المسلم به في التعاملات الدولية أن سياسات الدول الكبرى ذات الحضارة العريقة وتتبوء موقعا قياديا، كل شيء لديها يقاس بميزان حساس للغاية، لا مجال فيه للخطأ، باعتبار أن قرارها يؤثر في محيطها وفي العالم بأثره، ومصر تأتي في مقدمة تلك الدول، من حيث قوتها وعراقتها وقيادتها لإقليمها الواسع من حولها.
ولعل البعض استغرب من طريقة معالجة مصر الهادئة نسبيا لقضية ليبيا، في ضوء ما تملكه من معطيات تأتي في طليعتها قوة عسكرية مخيفة، ترتيبها التاسع عالميا والأول في الشرق الأوسط، واحتاروا في سر عدم تدخلها المباشر لحسم الصراع، لكن يفوت هؤلاء أن عقيدة مصر العسكرية والسياسية ترتكز على أولوية حل الصراعات سياسيا وعبر الحوار والمفاوضات، وترحيل الحلول الأخرى إلى حين، وهو ما ظهر من جهود مصر لا سيما مؤخرا، لحل الصراع في ليبيا عبر الحوار بين الأطراف المختلفة ورفض التدخلات الخارجية رفضا صريحا رسميا، فطرحت مبادرتها لحل الأزمة بما يخدم وحدة التراب الليبي واستهدفت تفويت الفرص على الطامعين في ثرواتها ومصدري الفتن والفوضى وسماسرة الحروب والمرتزقة الذين تعج بهم المنطقة.
وأكدت مصر دوما أن ليبيا ستكون لليبيين وليس الأتراك والمرتزقة والقتلة، وأصرت على تقديم المصلحة الليبية فوق كل اعتبار.
ومع فهم حكومة السراج وحليفه التركي أردوغان الخاطئ للمبادرة والحلول المصرية واعتقادهم أن القاهرة لم يعد في جعبتها حلول أخرى، جاءت تصريحات الرئيس السيسي اليوم خلال زيارته للمنطقة الغربية العسكرية لتكشف عن بدء نفاد الصبر المصري على هؤلاء المتاجرين بدماء ومصير الدولة الليبية، مؤكدة أن الأمن القومي المصري خط أحمر لا تهاون فيه ولا جدال عليه وأن التحرك المصري سيكون سريعا وحاسما كصواعق البرق، ومحذرا في الوقت نفسه من اختبار صبر القاهرة أو استفزاز جنودها.
الرئيس السيسي قالها اليوم صريحة لا تقبل اللبس "أي تدخل مصري مباشر في ليبيا بات شرعيا لحماية حدودنا"، وهو أقوى رد على طول باع القوات المسلحة المصرية وذراعها الطويلة وقوة نيرانها التي تبعث من الجحيم.
كما أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن أي تدخل مصري مباشر في الأراضي الليبية باتت له شرعية دولية تدعمه، لحماية الأمن القومي المصري من أي تهديدات على حدوده الغربية.
وأعاد الرئيس السيسي التأكيد على أن مصر تسعى لأمن واستقرار ليبيا فقط لا غير، واستفاض في الحديث: "وجود الميليشيات في أي دولة لا يسمح باستقرار الدول"، وهي رؤية تعتمد على خلفيته العسكرية وخبرته في مجال الصراعات.
الرئيس السيسي خلال جولته التفقدية للمنطقة الغربية العسكرية ذكر الجميع بأن "ليبيا دولة عظيمة وشعبها مناضل ومكافح، ويجب الوصول إلى حل سياسي للأزمة الليبية".
نبرة التحذير المصرية وصلت ذروتها أيضا على لسان الرئيس السيسي مؤكدا أن: "تجاوز حدود سرت - الجفرة يعتبر خطا أحمر".
كما قطع الرئيس الطريق على المزايدين على الموقف المصري، ومن يروجون أن لمصر أطماعا في ليبيا متناسين أن مصر بحكم الجوار ملزمة بالحفاظ على أمن ووحدة واستقرار جارتها بالتزامن مع تأمين حدودها وأمنها القومي.
الرئيس السيسي: لم نكن يوما غزاة أو معتدين على سيادة أحد ونحن نحب الشعب الليبي"، مشيرا في سياق تصريحاته إلى أن مصر تواصلت مع جهود الأشقاء من دول الجوار سواء العربية فى تونس والجزائر، أو تلك التى تتم من خلال اللجنة الإفريقية رفيعة المستوى داخل المحافل الدولية والإقليمية وفي مقدمتها جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي، للوصول لحل سياسي للوضع المتدهور في ليبيا، وأنها عازمة على حفظ وصون ثروات بلاد المختار وكرامة الليبيين.
سأكون فظا في صراحتي، إن تصريحات ورسائل الرئيس السيسي اليوم على الحدود الغربية قد حددت مصير القضية الليبية، وأظهرت القوة المصرية والعين الحمراء، بل ووضعت الآخرين في حجمهم الطبيعي وأعادت الأمل.. كل الأمل لأهل ليبيا الوطنيين أن مصر لن تتخلي عنهم أبدا وهي ستبقى حصنا ودرعا للعرب كافة..في النهاية مصر أرادت أن تقول كلمة واحدة وهي أن للصبر حدود وفي اعتقادي فإن الرسالة قد وصلت.
رسائل السياسة المصرية لم تقف عند الحدود الغربية بل وصلت أصداءها للجنوب حيث الدولة الإثيوبية، والتأكيد المصري على أن مسألة المياه لا تقبل التجزئة أو الحلول المؤقتة أو المبادرات الوسط، ولعل البعض فهم التحرك المصري الهادي على طول أزمة سد النهضة بأنها الطرف الذي عليه أن يقبل بسياسة الأمر الواقع، لكن دعهم في غيهم يعمهون، فمثل مصر لايسكت عن حق له ولا يترك شوكة في حلقها ولا ترهن مصيرها بأيدي خبيثة.
جاء التحرك المصري بتدويل قضية السد وإلقاء الكرة في ملعب مجلس الأمن، وكان القرار ذكيا في وقته تماما، وهو ليس ضعفا بل العكس تماما فهو يعكس قوة الدولة المصرية ودبلوماسيتها من خلال استنفاد كل الطرق القانونية والشرعية ليكون تحركها فيما بعد لحماية أمنها القومي مستمدا من تلك الشرعية ولا يستطيع لائم أن يلوم على القاهرة ما ستفعله حينها.