عبد الباسط عبد الصمد.. نبراس الخير الذي لن ينطفئ (2)
لم يكن عبد الباسط عبد الصمد (ابن صعيد مصر البار الذي جابت شهرته الآفاق) مجرد قارئ للقرآن الكريم فحسب (رغم أن هذا الأمر وحده شرف كبير لا يدانيه شرف).. بل كان "حالة تاريخية متفردة".
كان صديقًا للبسطاء.. ويفخر بصداقته الملوكُ والرؤساء.. كان يتصدَّق بألوف الجنيهات.. ويقرأ لأحبابه في مسجد الإمام الشافعي مجانًا!!
فقد تنازل عن راتبه لعمال المسجد.. فأصبح يُوزَّع بينهم من الجهات الرسمية.. أما هو فكان شغله الشاغل عقب تلاوته يوم الجمعة أن يوزع الصدقات على كل محتاج يقف أمام المسجد.. فلا تدري شماله ما أنفقت يمينه.
كانت راحته الحقيقية بين أحبابه من البسطاء.. الذين مهما كانت ارتباطاتهم يتركون ما بين أيديهم (مهما كان) ليستمتعوا بالوجود في حضرته.. يستمعون لآيات الله البينات ويروون للجميع بفخر: "والله العظيم سمعنا الشيخ عبد الباسط وشفناه بعنينا".
وليس أدلّ على تلك الحالة من الرجل البسيط الذي علم أن الشيخ سيتلو آيات الله البينات بالقرب منه... فترك ما وراءه من حطام الدنيا.. وذهب للشيخ عبد الباسط عبد الصمد.. وعندما رآه قال نصًّا (كما جاء في تسجيل تلاوة ذاك اليوم): "يا شيخ عبد الباسط.. أنا سبت الدكانة للواد الصبي يسرقها زي ما هو عاوز.. وجيت بس عشان أسمعك".. ولم يتجهَّمْ الشيخ.. ولم يعترض على مثل ذلك القول.. واكتفى بابتسامة عذبة توضِّح أنه تفهَّم مقدار الحب الذي يكنُّه له ذلك المستمع وسائر المستمعين أجمعين.. وأبدع في تلك الليلة القرآنية إبداعًا غير مسبوق.
لم يكن عبد الباسط عبد الصمد يرفض لأحد من البسطاء طلبًا مهما كانت آلامه.. ومهما كانت حالته الصحية.. لأنه كان يعلم جليًّا أنه ليس ملكَ نفسه.. بل ملك ملايين المحبين البسطاء الذين يرون في صوته نعيمًا أُخْرَوِيًّا.. وكان يعلم أن جبره بخاطر البسطاء هو دواؤه الحقيقي.. وليس ما يصفه الأطباء من أدوية ومسكِّنات.
ومن المواقف التي توضح جليًّا ذلك الأمر ما رواه لي يومًا ما أحد أبنائه -مشكورًا-.. حيث ذهب الشيخ مع ولده في زيارة لعيادة أحد الأطباء وقد اشتدَّ عليه الألم.. وتذكَّر الابن أمرًا ما أحب أن يسأل الطبيب بشأنه.. فطلب من الوالد أن ينتظره لدقيقتين فحسب.. وخرج الابن ليُفاجأ بأن الشيخ ليس موجودًا.
ظن الابن أن الألم كان أقوى من احتمال الشيخ فأسرع الخطى نحو السيارة.. ولكن.. عندما ذهب الابن نحو السيارة لم يجد والده هناك.
لعبت الظنون بالابن.. إلى أين توجَّه الشيخ وهو في مثل تلك الحالة؟ فعاد مرة أخرى إلى العمارة التي تقع فيها عيادة الطبيب.. ليسأل حارس العقار إن كان قد رأى الشيخ.. وعندما اقترب الابن من غرفة حارس العقار البسيطة أسفل السلم وجد طرف "كاكولة" الشيخ ظاهرًا.. فاطمأن قلبه.. ونادى والده فطلب منه الدخول.. فدخل وجلس مع الشيخ.. ولم يكن المجال متاحًا لطرح الأسئلة ففضَّل الابن الصمت.. وسريعًا أتى كوب آخر من الشاي له.. فشربه شاكرًا.. وانتهى الشيخ وابنه من شرب الشاي وسط كلمات الثناء والمحبة الصادقة من رجل صعيدي يرتدي جلبابًا بسيطًا وقد اكتسى وجهه بسُمرة الأرض المصرية الطيبة وحفرت السنون على وجهه آثارها.. وقبل خروج الشيخ من الغرفة طلب من ابنه أن يسبقه إلى السيارة.. ولم يكن الابن في حاجة إلى أن يكرر الأب طلبه مرتين.. فانصرف ليأتي بالسيارة أمام باب العمارة مباشرة.. حتى لا يرهق الشيخ نفسه أكثر من ذلك.
وقبل أن يسأل الابن أباه كأنما قرأ الشيخ السؤال.. فقال: "يا ابني.. كنت نازل على السلم.. قابلني أخونا حارس العقار.. وكان مبسوط جدًّا إنه شافني.. وعزم عليا لازم أشرب الشاي عنده وحلف على كدا.. ومرضيتش أكسر بخاطره وأرفض.. لأن دول ناس بتحبنا لوجه الله.. كتر خيره والله عزمنا وأكرمنا.. وكان لينا نصيب ناخد ثواب عنده".
لم يطلب الابن تفسيرًا للجملة الأخيرة لأنه يعلم معناها.. فليست غريبة عنه مطلقًا.. فقد أخرج الشيخ من جيبه مبلغًا كبيرًا من المال.. وطلب من الرجل الصعيدي أن يتفضَّل بقبوله كهدية منه!
رفض الرجل في إباء.. ولكن إصرار الشيخ كان أكبر.. فامتثل الرجل حتى لا يُتعب الشيخ.
فمن في الناس مثل عبد الباسط؟
رحمك الله يا عبد الباسط.. وجعل الجنة مثواك..