تفقهوا قبل أن تحجوا
في كل إنسان غريزة حب الاستطلاع.. فمن أصل طبع الإنسان لا يقبل على عمل إلا إذا عرف حكمته.. وماذا يفيده هذا العمل في دنياه وآخرته؟ لأن في أصله يحب نفسه حبا جما..
ولأن الحج بمناسكه لا تظهر حكمته في الوهلة الأولى لإشباع الحاجة الفطرية الفكرية والمادية، لذلك يحتاج الحاج إلى درجة عالية من الإيمان بحكمة الله وعلمه ويحتاج إلى درجة عالية من الإخلاص في العبودية للواحد الديان.
فيسأل الناس: هل يكون مع هذا التسليم المطلق لحكمه ما أمرنا به ليس إعمالا للعقل نقول لا، لأن لا يكون العقل حكما على النقل ولكن مسموح للعقل أن يفهم حكمه النقل ومسموح له أن يطير في المجال الاسلامي، مسموح له أن يسبح في المياه الإسلامية وأن يسبح وألا يشطح..
إن سيدنا عمر قال: "تفقهوا قبل أن تحجوا".
فلا يعقل ولا يقبل أن يذهب الحاج إلى بيت الله الحرام قبل أن يتفقه بأركان الحج وسننه ومستحباته، وصفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وما يجب أن تكون عليه أخلاق الحاج.
لا يقبل أن يعود الحاج من هذه الفريضة كما ذهب، لا يقبل أن يوجد الحاج في المشاعر المقدسة دون أن يشعر بها.
لا يقبل أن يلقي الحاج الجمرات بعيدا عن معاداة الشيطان وعند العودة يكون ألعوبة في يد الشيطان..
ولا يعقل ولا يقبل يأتي الحاج من البلاد البعيدة ليجلس في المشاعر المقدسة يأكل ويشرب وينام ويتكلم في شؤون الدنيا فهذا الحج لا يحقق مصالح المسلمين في الدنيا والآخرة..
لذلك يحتاج الحاج لكلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تفقهوا قبل أن تحجوا..
فأنت تحتاج معرفة حكمة الله من الحج ومن المناسك حتى ترفع الدرجة الإيمانية وتصل لدرجة عالية من العبودية..
إذا، كيف يستمتع الناس بالحج وهم لا يعرفون أسراره، فالعلماء يفصلون مناسك وأركان الحج وتفاصيل الطواف وتفاصيل السعي وعرفه ولا يذكرون لهم المعنى وراء كل هذا والحكمة من تلك المعاني..
نحن مسلمون أي مستسلمون لأمر الله تعالى بلا اعتراض: نحن نطوف لأننا عبيد أمرنا بالطواف السبع فلا نزيد ولا ننقص، نسعى لأننا عبيدا لله..
نحن نقف في عرفه في اليوم التاسع لأننا مسلمون مستسلمون خاضعون لا تردد ولا اعتراض ولا نقاش بل استسلام..
وهذا لا يمنع أن نتأمل ونتأمل ما وراء كل ذلك.. هل وراء هذا من حكمة؟
ولكن سواء عرفتها أم لم تعرفها يجب أن تنفذ لأننا عبيد مستسلمون ولا ترتبط العبادة بالأسرار..
عندما ذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليقبل الحجر الأسود فقال: والله أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك..
فلماذا قبل الرسول صلى الله عليه وسلم الحجر؟ ولماذا نطوف حوله؟ ولماذا نسعى؟ ولماذا نقف بعرفه؟ وما السر بالمزدلفة؟ وما السر للذهاب لمنى والمبيت بها قبل الوقوف بعرفه؟.. وغيرها من أفعال الحج..
فلا بد من معرفة المعاني والحكم من علمائنا وأساتذتنا.. لذلك بدأت أفكر في الأسرار والمعاني..
ولا ترتبط العبادة بالأسرار فهذه زيادة فالعبادة تنفذ أما الأسرار والحكم معرفتها من باب التلذذ فعندما تمارس عباده وانت تعرف حكمتها ستزيد لذة العباده وتمارسها بروح مرتفعة.
أن المعاني والعبر معرفتها تجعل للعباده معني فوق المعني وتضيف إلى الخير خيرا وإلى العبادة روحا
شيء وتذوب الفروق الدنيوية والطبقية.
وبعد أن يخلع الملابس المخيطة ويلبس الإحرام ويدخل في سلسلة الممنوعات.. يحظر على الحاج لبس المخيط والتطيب والحلق والتقصير ومقاربة المتعة ولا رفث ولا فسوق ولا جدال.. ليحكم اتصاله بالله..
يوم وقفه عرفات..
يوم اللقاء الأكبر بين العبد المشتاق ورب رحيم تواب، وبين هذا الإنسان الصغير وبين الرب الخالق الأزلي الكبير الباقي هو لقاء بين العبد وربه
هو من الأيام تجاب فيها الدعوات يباهي فيه الله الملائكة بأهل عرفات وهو يوم عظم الله أمره ورفع على الأيام قدره ويوم إكمال الدين وإتمام النعمة ويوم مغفرة الذنوب والعتق من النار.
يوم عرفة يوم المعرفة ويوم المغفرة، وتنزل فيه الرحمات على العباد من خالق الأرض والسماوات..
وقيل من وقف في عرفات ولم يغفر الله له فلا حج له..
وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات وقد كادت الشمس أن تتوب وقال: يا بلال أنصت إلى الناس، فقال بلال: أنصتوا للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا معشر الناس جاءني جبريل يقرأني من ربي السلام، وقال إن الله عز وجل غفر إلى أهل عرفات وأهل المشعر الحرام وضمن عنهم التبعات، فقام عمر ابن الخطاب قال يا رسول الله هذه لنا خاصة، قال: هذه لكم ولمن يأتي من بعدكم إلى يوم القيامة..
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله عبد من النار من يوم عرفة، وأنه ليدنوا عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ماذا أراد هؤلاء انظروا إلى عبادي شعثا غبرا اشهدوا أني غفرت لهم،
لذلك يشعر الحاج الصادق أنه قد غفر له ويرجع كما ولدته أمه..
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير الدعاء من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير..
موقف عجيب في عرفات يغطيه نبات بشري البشر مختلف ألوانه اغصانه تلك الأيدي المرفوعة من الأرض للسماء.. يري الحاج بين يديه صورة مصغرة للمحشر العظيم يوم القيامة وعليه أن يستعد له منذ الآن لأن رحلة الحج يعود منها الإنسان إلى وطنه.. وإما المحشر العظيم يوم القيامة لا يعود منها الإنسان إلى وطنه فالحج هو الرحلة قبل الأخيرة.. واستعدادا للرحلة الأخيرة.