مذكرات «سعد باشا» الخاصة.. كيف وصف زعيم الأمة لحظات اعتقاله؟
يوم 26 مارس 1919 بقلعة بولفارستا بمالطة.
فى يوم 6 مارس لم أكتب شيئا فى المذكرات. وفيه حدث أن دعانا الجنرال واطسون قائد القوات البريطانية فى مصر عنده بسافواى أوتيل، أنا وأصحابى أعضاء الوفد. وعندما اجتمعنا فى غرفة، خرج علينا من باب بداخلها، وحوله بعض العساكر.
وبعد أن سلم قال عابسا إنه نظرا لأنه علم أنكم تناقشون الحماية وتعرقلون سير الحكومة بتعطيل تشكيل الوزارة، فأنذركم بأنكم إذا أتيتم ما يعطل سير الحكومة، تقعون تحت العقاب الشديد، فهممت بالجواب فانصرف قائلا: لا مناقشة no discussion.
فطلبنا أن نستلم نص البلاغ من أحد الضباط الذى كان يترجم قوله فسلمنا إياه بعد استئذانه، وعقب ذلك، قلت لأصحابى، إن الأمر ليس مجرد تهديد بل هو جدى.
ثم كتبنا إلى مستر لويد جورج تلغرافا بالاحتجاج على هذا التصرف، قلنا فيه: إن تعطيل تشكيل الوزارة ليس من عملنا، بل هو ناتج من منع الوفد من السفر، ولكن السلطة العسكرية أرادت أن تلقى علينا مسؤولية هذا التعطيل.
ثم كتبت للجنرال المشار إليه جواب عتاب على المقابلة التى قابلنا بها.
فى يوم الجمعة 7 مارس تحدث البعض بأن 20 محلا أعدت فى طرة لعشرين شخصا.
وفى صبيحة يوم 8 منه، أخبرنى بعض الأصدقاء بأنه تقرر سجننا ولو لم يصدر منا شىء مما نهينا عنه، فلم أعبأ بهذا النبأ.
ولكن فى نحو الساعة الخامسة بعد الظهر، حضر أحد الضباط الإنجليز، ومعه وطنى أسمر اللون كمترجم وقال لى إنك مدعو لأوتيل سافواى. فخرجت معه حيث وجدت محمد باشا محمود واقفا أمام المنزل المجاور لنا، بجانب أوتومبيل وبعض العساكر، فأركبنا معا فى الأوتومبيل إلى قصر النيل، وكان من خلفنا فى أوتومبيل آخر إسماعيل صدقى باشا.
وأصعدنا إلى الطبقة العليا ووضع كل منا فى أودة. وبعد قليل حضر بعض الضباط والعساكر وفتشونا جيدا، ولم يجدوا معى شيئا إلا بعض أوراق ردوها صباحا بعد أن قرأوها وعرفوا عدم أهميتها. وكانت أودتى أوفر متاعا وأوسع من بقية الأود.
وبعد قليل أحضر حمد باشا الباسل وجلس كل منا منعزلا عن الآخر إلى أن سمح لنا -بناء على طلبى- بالاجتماع معا.
وطلبت من المنزل أكلا فلم يأتوا به إلا بعد الساعة 11 وكنت قد رقدت فوق السرير، وما ذاقت النوم عيناى طول الليل، لأن الحراس كانوا يروحون ويغدون أمام الأودة فيحدثون حركة مقلقة، ولأن أفكارا كثيرة كانت تتوارد علىّ. وكان يزعجنى منها ما توحيه حالة زوجتى التى لم تكن فى البيت وقت القبض علىّ. ولم يخطر ببالى نفسى ولكن سجن إلى زمن ما.
وقد قيل لنا تهيأوا لمقابلة بعض الناس غدا الساعة 9.30 ففهمنا أن الجنرال اللنبى يريد رؤيتنا أو واطسون أو غيرهما من الضباط. وخطر ببالنا فيما خطر إجراء تحقيق معنا.
ثم قيل لنا أحضروا ملابس تكفى لشهر من الزمان، ففهمنا أن ذلك للإبعاد وتوهمنا أنه سوء فهم من مبلغنا.
وفى الصباح قيل لنا استعدوا للسفر من غير بيان الجهة. وطلب منا أن نبدى رغبتنا فيما إذا كان يلزم أن يصحبنا تبع، فأرشدت اسم محمد أحمد.
وعلمنا بعد ذلك أنهم طافوا على منازلنا لإحضار لوازم السفر منها فى مسافة وجيزة جدا.
وفى الساعة 10.30 أنزلونا الطبقة السفلى حيث كانت أوتومبيلات معدة لنقلنا. ووجدنا أتباعنا مع أمتعتنا فى عربة نقل.
وسارت بنا الأوتومبيلات مقفلة إلى المحطة فدخلنا فى رصيف الصعيد وانتهينا إلى محاذاة العربة التى أنزلنا فيها. وكنا محاطين بجند فى مناطقهم غدارات.
وأجلسوا كل اثنين منا فى عين من العربة ومعهما حارس متمنطق بغدارة. ثم بناء على طلبنا اجتمعنا معا فى عين واحدة. وكان على الباب جنديان ومعنا جندى. وكلما ذهبنا إلى جهة سار جندى خلفنا ويقود الحرس الموضوع علينا ضابط أكتع. وتغدينا على حسابنا فى محل الأكل، ولم يقولوا لنا عن الجهة التى توجه إليها.
وكانت العربة التى نزلنا فيها محاطة بالكثير من الضباط والجند. ولم نر أمامها من المصريين إلا محمود باشا صدقى ومحمد باشا صدقى، رأيتهما من بعد والدموع تتناثر من عيونهما.
وخاطبنى محمود باشا فى شأن توكيله فأجبته أنى سأرسل التوكيل إليه. ودفع إلىّ كل واحد منهما ما كان معه من النقود، ولا يبلغ مجموعها أكثر من عشرين جنيه تقريبا.
وكان يحول بينى وبينهما فى الكلام ضباط وجنود ومترجم قذعة، كان يقول: لا تتكلموا فى غير موضوع التوكيل. ولقد تقبلنا كل هذه المعاملات بالصبر والجلد.
وكنا نضحك أحيانا عندما يقوم هناك سبب يقتضيه، ولطريقة حمد باشا الباسل فى حسن التوكل وجميل التحمل يرجع الأمر فى تلطيف الأمر علينا.
ولما وصل بنا القطار إلى بورسعيد، وجدنا مستر إلجود فى انتظارنا وهو كومندان العساكر الإنجليز ببورسعيد فقابلنا بهشاشة وبشاشة وسار بنا إلى أوتومبيلات الصليب الأحمر معتذرا بأن غيرها كان مشغولا، وقادنا إلى باخرة ضخمة من بواخر النقل، تدعى كاليدونيا وكانت مشحونة جندا وقدمنا إلى قوامندانها وتناولنا الشاى معه.
وكتبنا جوابات لمنازلنا، وطلبنا منه أن يتوسط فى إحضار نقود لنا بواسطة تحويلات سحبناها على المصارف التى لنا معاملة معها. فردها علينا بأن هذه المحلات أبت أن تدفع إلا بعد مراجعة محلاتها بمصر.
ومكثنا فى الباخرة ببورسعيد إلى يوم الاثنين. حيث أقلعت بنا وقت الظهر وأبى كل من سألناه ممن فيها أن يبوح باسم الجهة التى تقصدها حتى اليوم التالى حيث قيل لنا إنها تقصد بنا مالطة.
وقد كنا أثناء ذلك ثابتين غير جزعين ولا مضطربين ولا قلقين إلا على أهلنا الذين يتوهمون أننا متعبون متألمون لما يتوهمون من ألمنا بحيث لو كنا متأكدين من اطمئنانهم علينا لكنا فى راحة بال وسكون حال.
وكانت السفينة كما قلنا مملوءة جندا من الإنجليز، ولم يكن فيها من غيرهم إلا بعض الجنود والخدم، ورجل وامرأته يظهر عليه أنه من يهود الإسكندرية، وله علاقة بالسلطة العسكرية. كان هذا الرجل يحدق فينا كثيرا كلما تقابلنا معه.
ولقد رأينا قبل تحرك السفينة وطنيا بطربوش أراد الوقوف معنا بعد أن سلم بالإشارة علينا، فلم نرد أن يستمر وصرفناه عنا، وما لمحنا فى القطار وطنيا إلا رجلا من بورسعيد مر سريعا بنا، واسمه فيما أذكر عبدالحليم.
وكان الأكل مناسبا وأغلبه من الرز مع الكرى، ولم يكن لأحد أن يأكل غير المعين فى ورقة الأكل إلا أنا، فقد كان من المباح لى أن أطلب ما أريد نظرا لمرضى، وكانت الخدمة طيبة والنظافة مستوفاة.
وكنا نقضى أوقاتنا فى تناشد الأشعار وبعضها فى لعب الورق، وبعضها فى الحديث والسمر، ونستعين على طرد الهموم بمبادئ الدين والفلسفة، وقد نجح تذكرها نجاحا عظيما، وأفادنا فى تحمل مشاق الغربة والسفر والبعد عن الأهل والوطن.