أسماء علي تكتب: نساء في التاريخ اليمني غزال المقدشية

في تاريخ اليمن الحافل بالشخصيات العظيمة لم تكن البطولة حكرًا على الرجال فقط، بل كان للمرأة اليمنية حضورها القوي، وكلمتها المسموعة، ومواقفها الخالدة. ومن بين تلك النساء اللاتي سطرن أسماءهن في ذاكرة الشعب وأدبه وثقافته تبرز غزال المقدشية، الشاعرة التي واجهت الواقع بالكلمة، وجعلت من شعرها سلاحًا للنضال الاجتماعي والدفاع عن الكرامة والعدالة.
من هي غزال المقدشية؟
هي شاعرة وحكيمة يمنية، وأسطورة الشعر العامي، غزال بنت أحمد بن علوان المقدشي، نسبة إلى قبيلة المقادشة التي تسكن في قرية حورور من مخلاف عنس في محافظة ذمار.
وُلدت في القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)، وعاشت في القرن التاسع عشر حتى توفيت بعد عام 1266 هـ / 1850م.
كانت امرأة وُصفت بالحكمة والقوة والشجاعة والشعر والمواقف فخُلِّدت في التاريخ اليمني اسمًا ومواقفًا وأشعارًا وأقوالًا، عرف شعرها بالحكمة والفصل وتناقلته الألسن في المدن والأمصار اليمنية، ولا تزال حكمها وأقوالها تردد حتى اليوم في العديد من المواقف، مما يعطي دلالة أكيدة على أن الشعر والحكمة لم يقتصرا على الرجال في اليمن، بل تجاوزتهما المرأة أيضًا، وأصبح لها قولها وفعلها.
هذه الشاعرة التي تحمل طبيعة الأرض اليمنية وروحها، تعد من أهم وأبرز شعراء العامية في اليمن،نشأت بينها وبين كثير من الشعراء الشعبيين في عصرها مهاجات شعرية، أظهرت فيها قدرة عالية على مقارعتهم.
بعض أشعارها مقطوعات قصيرة تصلح للغناء في المناسبات كـ"البالة"، واستطاعت بشعرها الخروج من البيئة الزراعية الريفية إلى القضايا الإنسانية العامة.
كما تخطت بمشاركتها الحديث عن الكثير من القضايا ذات الصلة المباشرة بالواقع اليومي، فلم تترك قضية من قضايا المجتمع الريفي أو اليمني إلا خاضت فيها بشكل أو بآخر.
لقد ارتفعت غزال المقدشية بموهبتها الشعرية وحكمتها وتحديها إلى أعلى مستويات النضال الاجتماعي، فقررت مبدأ العدل والمساواة وإلغاء التمييز العنصري قبل ميلاد الأمم المتحدة وقوانينها الخاصة بإلغاء التمييز العنصري وإعلان حقوق الإنسان.
وقالت في بيتين من الشعر:
سواء سواء يا عباد الله متساوية
ما حد ولد حر والثاني ولد جارية
شعر الحكمة والقيم
لم تكتفِ أسطورة الشعر العامي بمسيرتها الشعرية لمحاربة الطبقية والطائفية والمناطقية، بل تعدت ذلك إلى حث المجتمع على تحري الصدق، وذم الكذب، والتحلي بخلق كرم الضيافة، فقالت:
حديثي الصدق من قلبي ولساني
من سار بالكذب هو بين العرب مهتان
مذموم سماه رب الملك بهتاني
حليت في دار جدي نكرم الضيفان
عند العراء كبش ما بنرحم الضاني
مساجلات شعرية
وقعت مساجلات شعرية بينها وبين بعض شعراء عصرها، ونذكر منهم شاعرًا من قبائل الحداء يُدعى علي بن صالح الجميزة، الذي كان ينافسها ولما عجز عن منافستها في ميدان الشعر لجأ إلى أخذ جملها (ناقتها)، فما كان منها إلا أن صلته بنار شعرها وتعد هذه الأبيات من البالات التاريخية للشاعرة غزال المقدشية، ولا تزال تُغنَّى حتى اليوم.
قالت:
يالله يا منصف المظلوم بك نتكل
لأنت مهل يا إله العرش فانا عجل
انصف لي من علي صالح جميزة قتل
جعله الصوب يمسي من رسيسها يزل
ما عاد أحد يبكي على الميت وقل له بحل
وبعض الأصحاب عين صحبته ما تحل
غزال قالت تعالوا يا وجيه القبل
أدي لكم حكم لا ينزل ولا يندول
الهيج بالهيج والنعجة بدلها رخل
شجاعة وسخرية لاذعة
كانت غزال المقدشية أكثر نساء عصرها شهرة في مجال القصيدة العامة،ومنحها شعرها مكانة عالية وشجاعة على مواجهة الأحداث والتصدي للرجال، فكانت لاذعة السخرية منهم وقاسية الهجوم على من يحاول الإساءة إليها، ولم تكن تتردد عن التشهير بأي رجل أو السخرية منه مهما كان مركزه الاجتماعي أو مستواه الوظيفي.
في بيت لها عن المثمر الذي كان يأخذ الخمس أيام حكم الإمام في تلك الأيام، قالت:
يا رجال البلد قد المثمر مخالف
جاء يطوف الذرة أو جاء يطوف المكالف
قال يشتي غزال وإلا بيزيد الغرامة
با أضربه في القذال أو أربطه في العمامة
لا رجع يا رجال ما شي عليا ملامة
دورها في حل النزاعات
لم تخف من أحد ولا من أحكامه وهناك موقف لا ينسى عندما حُلت قضية بين أبناء قبيلة عنس،جاء أحد مشايخ القبائل المجاورة وأراد أن يقحم نفسه حكمًا بينهم، وعرفت غزال أن أحدًا لم يختاره ولم يحكمه بينهم، وكان قد بدأ يتبجح ويلقي الأوامر فبدأ الكلام معها بشعر قال فيه:
غزال يا مقدشية من غزال الفند
يا بنت علوان يا مدغنجة بالهرد
البخيتي ثور القيامة إذ نوي بايهد
مقتال مضراب كل رأس منه ما نفذ
يوم الصلب يوم فدجنا مهجتك والكبد
فردت عليه بقوة وحلت القضية بأبيات شعرها قائلة:
يا مرحبا ما يشدو من رداع البجد
ما محمولها وزرها والمراسي جدد
مرحب ملان قاع شرعة وأنت حمل وشد
بالجابري ذي حروفه مثل طعم السمد
قد أول الحرف ضحكة وآخر الحرب جد
قوم يا بخيتي تروح عنس هي باتسد
والجعبلة يرضي الصوفي بمثنى وحد
والقحقحة هي على ذي سحر وإلا عمد
لو أني دلي كان قد شديت هجرت وتد
وبسكن القفر والصياد مني يشد
يحارب لاما شيبت الطفل ذي قد ولد
فتم الصلح ورضي الجميع بحكمها.
مواقف في كبر سنها
وأخيرًا، لا بد من ذكر موقف حدث وهي كبيرة في السن، عندما التقت بمن دفعها بعنف سابقًا وعندما التقيا بعد فترة قالت له:
سلام يا إنسان قد لي من سلامة زمان
سلام بالكتف ما ينفع سلام البنان
من عشر عاشور قد لي من سلامه شهور
من يوم جاء ودهف الجدة من أعلى القصور
خاتمة
جدير بالذكر أنها كانت تمتلك فراسة وحكمة قوية وهي من قرية معروفة بصلابة أهلها وشدتهم وكرمهم وتمسكهم بعاداتهم تجاه المرأة.
ولا تزال غزال حاضرة في ذاكرة اليمنيين، يتردد اسمها كلما ذُكرت الحكمة والشجاعة، وكأن صدى كلماتها ما زال يتنفس في أروقة الزمن.
رحم الله امرأة أثبتت وجودها فخلّدها التاريخ بشعرها ومواقفها التي أصبحت جزءًا من الوجدان الشعبي.